Monday, August 17, 2009

الجزء الخامس - اونوريه دي بلزاك

عندما بدأ بلزاك الكتابة في الربع الأول من القرن 19 كانت الرواية والقصة الرائجة ينبغي أن تكون إحدى ثلاث: غرامية، أو قصة سوداء، أو فكاهة، فالأولى عادة تصور مغامرات غرامية لأبناء الطبقة الراقية، مع التركيز على المواعظ الأخلاقية والمقابلة بين اللذة والفضيلة، والدأب على وعظ القارئات الشابات بأن سلامتهن تكمن في طاعة أمهاتهن والحذر من الغواية، مع استرسال في الأحلام والوهم، والقصة السوداء هي التي تعتمد على الحوادث الغريبة، الخارقة، والمخيفة وتجري أحداثها عادة في الدهاليز والسراديب المظلمة، ولابد أن يكون في أبطالها عفاريت ومسوخ، وأرواح شريرة أو خيرة، ونفوس موتى تتقمص بعض الأبطال، أو تسكن في قلاع أو قصور مهجورة وتتميز بوحدة المكان الذي هو عادة قصر أو بيت مسحور أو مسكون بهذه الخوارق. أما القصة الفكاهية أو الساخرة فتعالج عادة هموم الطبقتين الوسطى والدنيا وتقوم على أساس المفارقات والمواقف غير المرنة والحيل اللفظية، والعقد، وغيرها من سبل السخرية وفنون الإضحاك. وهذه الأنواع الثلاث نجدها في الواقع تقتسم معظم إنتاج بلزاك، وإن كان استفاد في وقت مبكر من مقومات الرواية التاريخية كما أظهرها الأديب الاسكتلندي ولترسكوت الذي كان مدينا له مثل معاصريه بالكثير. إلا أن الحدود بين هذه الأنواع الثلاثة الرائجة وقتها، لم تكن واضحة أحيانا في بعض أعمال بلزاك، فمثلا في قصة "وريثة بيراج" تعود بنا أحداث القصة إلى القرن 17م حيث نجد مغامرا ايطاليا "فارس أحلام" يتزوج الفرنسية لويزدي بيراج ليستولي على ثروتها، فهذه قصة غرامية أولا، إلا أنها بسرعة تتحول إلى قصة سوداء، تدور أحداثها في قصر مسحور، يحاول المغامر الشرير استغلال معرفته بأسرار كثيرة وغامضة، إلى حين ظهور نفس خيرة، تخلص الفتاة الضحية من زواج الإكراه المفروض عليها. وهذا يصدق أيضا على قصة "كلوتيلد دي لويزنيان" حيث نجد الملك جانت هاربا من بلاده قبرص، ولاجئا بإقليم بروفنس الفرنسي، اثر صراعه مع قراصنة البندقية، وهنا يتآمر قرصان شرير لتسليمه إليهم، فيخف الفارس الكونت جاستون للدفاع عنه، لذا يقرر تزويجه بابنته الجميلة كلوتيلد، إلا أن هذه مغرمة بشاب وسيم، فترفض الزواج إلى حين تنكشف العقدة وهي أن الكونت جاستون هو نفسه الشاب الوسيم، وهكذا تختلط القصة الغرامية مع القصة السوداء أيضا حسب معايير تلك الأيام. وتمثل قصة "كاهن الأردين نموذجا" فاضحا لهذا الاختلاط في أجناس القصص، إذ نجد شابا يجهل أبويه، فيغرم بفتاة، ثم يرجح أنها أخته، وللتكفير عن هذه الخطيئة يتجه للتدين، وفجأة يعثر على أمه وتخبره أن تلك الفتاة ليست أخته، فيترك الدين ويعود للحب، وهنا تبدأ سلسلة من الأحداث العنيفة المقحمة "إذ يظهر فجأة عدو لهذا الشاب هو زعيم القراصنة آرجو" ويقع الاختطاف ثم ينتصر المحبان، ويعودان للحب، بعد هزيمة "آرجو" هذه الشخصية العنيفة التي استعارها بلزاك من الشاعر الإنجليزي بايرون. وأخيرا سنضرب مثالا آخر هو رواية "الجنية الأخيرة"، وبطلها الرئيسي شاب يدعى "أبيل" يعاني من شغف شديد بصور الجنيات، ويستهلك وقتا كبيرا في تخيلها، فلما كبر فقد أبويه، ووقع في حب فتاة بائسة تدعي "كاترين" لأنها تشبه صورة إحدى الجنيات، وفجأة تغويه سيدة إنجليزية شقراء كانت شديدة الشبه بصورة لجنية يحتفظ بها، ولأنه ثرثار يخبرها بذلك فتمسك الخيط من بدايته وتعلن له أنها هي تلك الجنية فعلا، وتتزوجه وفجأة يظهر المخلص خادم وسيم، يخبره بوفاة حبيبته كاترين، فيحزن، وعندما تهجره السيدة وقد ساء حاله، تنكشف العقدة يزيح له الخادم القناع عن وجهه فإذا به كاترين متنكرة ويعودان للحب بعد انتهاء الكوابيس، وانتهاء دور الجنيات والأرواح الشريرة في الرواية