وأهم ما يميز هذه الواقعية هو القدرة على التقاط مشاهد الحياة العادية، وتحويلها الى أيقونات متناسقة لرؤية موحدة للحياة، مع تركيز خاص على القضايا الأخلاقية العاصفة التي كانت تهز المجتمع الفرنسي المفجوع بإخفاقات الثورة التي تحولت من حلم للملايين
إلى وحش هائج يأكل أبنائه، رغم الشعارات البراقة التي حملتها في البدء، فكان بلزاك بذلك شاهدا على عصر التحولات بين أحلام القرن الثامن عشر وكوابيس التاسع عشر، ورومانسيته أيضا، وهي شهادة ثمينة سجلت أكثر من مرة
وأخيرا جمعها في سلسلة من أعماله، دائم بينها بطريقة عجيبة، ونشرها في مجلدات أسماها "الكوميديا البشرية" تيمنا بدانتي، وأيضا فضحا لعصر دراماتيكي انقشعت فيه هشاشة وزيف الطبقة البرجوازية وحلم فاوست الذي استبطنته
واتضح فيه أن دعاوى عصر الأنوار كانت غير مضمونة النتائج، وبالتعبير عن هذه النهاية، نهاية الحلم، كان بلزاك يقف على شرفة حلم آخر هو الحلم الرومانسي بكل تفاصيله ولا واقعيته وهنا المفارقة.
أما من حيث آليات السرد فإن القصص والروايات الأخيرة من أعمال بلزاك وأيضا "أوجين جراندة" تتوافر فيها حبكة متماسكة مع ميل إلى المنطق أحيانا، إلا أن ابتداعه لآلية "عودة البطل" أدت به إلى تعامل أكثر مرونة وتسامحا مع زمن السرد
ومع تراكم تجربته المكثفة أصبح من اليسير أن نلحظ لديه معظم بذور الرواية الحديثة، كما أن تجربته في كتابة "القصص السوداء" جعلت بعض قرائه يرون في بعض أعماله بداية تأسيس فعلي للرواية البوليسية التي ستزدهر بعده بزمن طويل.
والحقيقة أن تضيف أدب بلزاك الروائي يحوي في حد ذاته أكثر من مخاطرة، فنظرا لكثرة وتنوع ما كتب من قصص نجد البعض يصفه كأب للواقعية، أو للرواية البوليسية، أو للرواية الجديدة، وغيرها ولعل السبب في ذلك أيضا أن المصنفين ينطلق كل منهم
من جزء من أعماله دون جزء آخر
وهي أعمال غير متناسقة مع بعضها البعض، إن لم نقل إنها غير متكاملة وغير كاملة بطبيعة الحال شأن أي عمل أدبي
جريدة البيان الإماراتية